الاثنين، يناير 04، 2010

البحـث عـن محـاوله لممـارسة الإندهــاش


كتابات أدبيه
البحـث عـن محـاوله لممـارسة الإندهــاش


سنحت لي الفرصه أخيراً بأن أنتزع نفسي من دوامة الحياه اليوميه ومعايشة الروتين الممل مع بدايات كل صباح لي في هذه "القاهره" ، والتي قهرت الكثير مما نحمل فاصبحت قاهره اسم ومسمى .
داعبت تفكيري فكرة العوده إلى روح التمرد والإنجراف ، نحو ممارسة رغباتي الخاصه ـ أو ما كنت أسميه سابقاً البحث عن محاوله للإندهاش .

خرجت عند التاسعه مساءاً من منزلي المتواضع ، ولا أدري وجهتي ، مسلماً نفسي لدوامة البرامج القـاهريه /السودانيه ـ "عليك يا الله..!!" .. ولكنني فجأه عدلت تفكيري ولحسن حظي فتشت في جيوبي فوجدت انني احمل بعض من مال ادخرته ذلك اليوم دونما سبب معين .. فقررت فوراً الدخول الى السينما ومشاهدة الفيلم حاصد جوائز الأوسكار "تايتنيك" والذي نويت عدة مرات مشاهدته ولم تسمح الظروف بذلك .. قطعت لنفسي تذكره ولما كان الوقت المتبقي على بداية العرض ما زال مبكراً ، تجولت في الأسواق مستمتعا لأول فتره ومنذ زمان طويل بالسباحه في عالم الفترينات الممتلئه بكل ما هو مدهش لروعته ولسعره الذي يبدو مبالغاً فيه بعض الشيء .. اشتريت لنفسي علبة سجائر من النوع الذي افضله " إل اند إم بلو" .. دخنت واحده وقررت ممارسة الترف مع ذاتي فتناولت ايسكريم "بوظه" بطعم المانجو .. لم يكن دافعي وراء كل ذلك غمس نفسي او ايجاد مساحه لي وسط تلك الحياه الصاخبه والمترفه التي عمت المكان وزوار المركز التجاري الذي كنت اجول اركانه المختلفه .. ولكنني كنت احاول استياق نفسي واعدادها باكبر قدر من التشويق لرؤية "التيتنيك" فاستحضرت مشاهد حفل جوائز الاوسكار .. وقلبت في راسي سريعا ما كتب في الصحف والمجلات عشية الحفل عن الفيلم الذي انا بصدد مشاهدته ، ما اكثر ما قيل عن روعته وتفرده .

انتبهت فجاة إلى موعد العرض .. فدخلت إلى قاعة العرض حاملاً ما بداخلي ما تبقى من مساحات للمتعه  والدهشه تاركاً كل شي لا يمت بصله للقاعه خارجها ، نفضت نفسي من هواجسي وهمومي وتفكيري المثقل بالخارج وجلست امارس رقي اللحظه وامتع نفسي بروعة الصوت والصوره والصمت الذي ساد القاعه .

تايتنيك عباره عن سيمفونيه موسيقيه ولحنيه متكاملة الابعاد منذ بداية العرض تحملك رغماً عنك إلى خارج القاعه إلى جو من الروحانيه والخيال اللامحدود ، فتبدو وكانك طائر يحلق بعيداً في عوالم لا تمت إلى الواقعيه بصله .. موسيقاه وإخراجه ، تصويره وحركته وحواره ـ ابداع الدراما المحتشد في هذا العمل الفريد والنادر ـ رغم أن القصه واقعيه وماساويه جداً إلا انها مزجت بنوع من الخيال في نسج المشاهد والتفاصيل في الفيلم وهو ما يجعلك مرتبطاً ارتباطاً غريباً بشخصيات الفيلم وأحداثه المدهشه ، اضف إلى ذلك التقنيه الفنيه العاليه لاستخدام المؤثرات الصوتيه والتي تجعلك تحلق فوق الاحداث كجزء منها . إنه تعبير حقيقي عن سمو القيم وممارسة الإنسانيه في أروع أشكالها ، عن الحب وقيمة الإرتباط ، الفلم ليس كما صوره الكثيرون بانه رومانسيه حالمه بل هو انتصار حقيقي لمعاني العشق ونكران الذات لاجل من تحب رغم الحواجز والعقبات والمصاعب التي تواجه العاشقين . لا أود الخوض في تفاصيل واحداث الفيلم لعلمي وثقتي انه ما زال هناك الكثيرون لم تتح لهم الفرصه لمشاهدة الفيلم ، ولعزمي تناوله في صوره نقديه وبحثيه أعمق .

طوال اربع ساعات هي زمن عرض الفيلم تملكني شعور غريب بانني صرت لا اعرفني إذ ذبت تماماً خارج ذاتي الملطخه بالتفاصيل والهموم وتلوثات الحياه اليوميه وعبء المعايش ، أحسست بانني اعيد شحن روحي بأشياء كثيره كنت قد بدأت أفقد ثقتي بها من حولي أو أنها مازالت موجوده ، فأحسست وكانني أعيد بناء دواخلي محتشداً بذاتي وكل ما احتاجه من قيم بدأت تتداعى عندي في زحمة اللاموضوع والهروب من اللاشيء لللاشيء وعشت الساعات الاربع فخورا بي كانسان قادر على تذوق الإبداع والتمتع به وممارسة الإندهاش .. فالتهمتني الساعات الاربع وأنا لم التهم نصيبي بعد من التمتع والانزواء بعيداً عن دوامة التفكير والتداعي اليومي لانسانيتنا .

إنتهى الفيلم ، إلا أن مساحات التجدد والانتعاش لادميتي لم تنفد ، فخرجت أحمل عبئين ، الأول : لابد لي من مشاهدة الفيلم مره ثانيه وثالثه ...و.... رغم ضيق الظروف الماديه ، والثاني : المحافظه على نقائي ودفء إحساسي وروحي ولو ليوم بعيداً عن كل المنقصات وما اكثرها في حياتنا ... خرجت محتضناً الشوارع كطفل اقفز وألعب فراودني شعور بانها تحتضنني أيضاً .. عدت إلى منزلي قراية الثالثه صباحاً وأنا احس بقيمة انتصاري وعظمة انجازي بقدرتي التي مازالت موجوده في الاندهاش ، ولنشوتي بانني اعدت لنفسي ثقتها بالقدرة على التجدد والحياه في واقع افضل وأروع مما نعيش ..

فمنحت تايتنيك اوسكار أخرى .. مني

ومنحت نفسي فرصه  لاستعادة دهشتي المفقوده ..

ففرحت ..

وكتبت ..!!
30 مايو 1998 القاهره

* نشرت بواحة جريدة الاتحادي الدوليه بتاريخ 6 يونيو 1998 ـ العدد 630 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق