الأربعاء، مارس 31، 2010

حكايــة عــم الصديــق بيــاع اللبــن..!؟



"قصة قصيرة"


كنا صغاراً آنذاك .. نمرح ونلهو بفرح طفولي غامر ، كالبحر نثور ونهدأ .. فساعه نلعب ونضج وكاننا دجاج هائج في حظيرته .. وأخرى نهدأ كهدوء القريه في الليلة الظلماء ، تمر بنا الكثير من التفاصيل فلا نعبأ بها ـ لا نعبأ لما هو محزن ولا هو مفرح .. كل القريه دارنا ، نملك أشياءها بلا شريك او منازع .. بابور المويه الكبير ، البيوت والأزقه ، النخلات الثلاثه قرب القيفه ، هيكل عربية الري الكبيره قرب المقابر ، حتى القبور وشواهدها كانت لنا ، خرابة الصرايه القديمه قرب مشروع ود حمد ، بعض المرات عندما نلعب "دسوسيه" كان البعض منا يختار جزء من القبور وفق خطه معينه تصبح خاصته وباقينا يتقاسمون ما تبقى من قبور ، هكذا الاشياء كانت كلها لنا ، ما اجمل لعب "عسكر وحراميه " و " الفات الفات " عند النخلات او الصرايه القديمه .. هكذا كنا نملك كل الأشياء بلا منازع.

عم الصديق .. بكل مظهره البسيط وتفاصيله الأبسط ، كان كذلك جزء من طقوس فرحنا ، في الخامسه والستين من عمره .. كسا البياض شعره ولحيته ، طويل فارع ، وتكسو وجهه سكينة دائمه كما الاولياء الصالحين ، نظيف يحرص ان يكون قميصه وسرواله وصديريته ناصعة البياض تماماً كلون الحليب الذي يبيع ، لا تفارق الإبتسامه وجهه الصبوح في ضحكه او عبوسه وكانها تفرد تلك التجاعيد التي تكسو سحنته .

النظافه والدقه والترتيب تكسو كل تفاصيل عم الصديق ، بداءاً بمركوبه الفاشري جلد النمر والذي ينتعله لو اذكر جيدا منذ ثلاث سنوات مضت الا انه يبدو وكانه اشتراه لتوه ، وانتهاءاً بساعته ماركة "سيكو" الاصليه والتي يقسم بان عمرها تجاوز الخمسه وعشرون عاماً وما زالت تبدو زاهيه وجديده .

تستيقظ القريه في الصباح الباكر، مع صلاة الفجر حينما تبدأ الحياة تدب في كل البيوت ، فيخرج الجميع لاداء الصلاه في مسجد القريه ، تلك الساعه يظهر عم الصديق عند بوابة المسجد، يربط حمارته "تمبشه " هكذا كنا نسميها سراً لضخامتها وبدانتها ، يدخل الى المسجد بعد ان يحي الجميع ويصبح عليهم ، وبعد اداء ركعتين يصلي الصبح مع الجماعه وما ان تنتهي الصلاه يبدأ عم الصديق جولته الصباحيه اليوميه وبنفس الروتين المعتاد في كل يوم يبدأ من فريق "قدام" إذ انه الاقرب للمسجد ويسكن هناك علية القوم من سكان القريه ومن ابرز ساكنيه العمده " الحاج عبد الله " والباشتمرجي "عمر" حكيم الشفخانه ، وشيخ "عطا الله" الماذون و "ود الطريفي " قاضي المحكمه الشرعيه ، وينتهي الطواف على تلك النواحي ببيت "ود حمدين" مهندس بابور المويه حيث تخرج "حليمه" زوجته وهي تحمل حلتها ذات الهلالات الخضراء وتبادل عم الصديق نفس العبارات والتحايا اليوميه

- صباحك خير عم الصديق ، اريتك طيب ؟

- اهلين يا حليمه صبحك الله بالخير ، الحمد آلاف

في هذه اللحظات يكون الجميع ودون حوجه من عم الصديق لان يطرق اي باب آخر قد خرجوا منتظرين عند ابواب البيوت في انتظار لحظة وصول عم الصديق لهم

- سلام عليكم ، كيف اصبحتوا ..؟

- يارزاق يا كريم ، يا فتاح يا عليم ، اصبحنا واصبح الملك لله ...!

كل الناس يتبادلون التحايا مع عم الصديق وكانه صباح العيد ، نفس الناس ، ونفس الروتين كل يوم وكل صباح دون اختلاف ودون تغيير في اي من التفاصيل ، ويزداد المشهد تعمقاُ في التفاصيل كلما زاد عدد البيوت التي يمر بها عم الصديق فتطول هنا وهناك التحايا احيانا وتتخللها بعض التفاصيل الخاصه واخبار مشتته عن القريه ، كما يزيد عدد الأطفال خلف عم الصديق خطوه بخطوه شاقا طريقه نحو حلة السوق وفريق ورا ويضحي المشهد كرنفاليا امثر من ذي قبل .

وأخيرا يصل عم الصديق إلى بيتنا في صحبة الاصدقاء من فريق قدام ، حسن وحسين التيمان ، بلابل والصقعي ، وابراهيم لساتك وباقي الشله ، وتستمر نفس المشاهد السابقه ، التحايا والتصبيحات والاحاديث المطوله والقصيره ، وما ان ينتهي من اعطاء "الجاز بت العجب " حصتها من الحليب ، حتى نعلم جميعا ان كل بيوت القريه قد نالت حصتها من اللبن فبيت "الجاز بت العجب" وزوجها "حسين العربجي" صاحب الطاحونه كان اخر بيوت القريه ما قبل الخور الفاصل والمقابر .

نركض من هناك جميعاً خلف عم الصديق وهو جالس فوق ظهر "تمبشه" كفرسان الأساطير القديمه شامخا كملك متوج لا تعلو اصواتنا في حضرته وحتى عندما نتحدث نظل نتهامس وكاننا لا نقوى على قطع سكينته وصمته الملوكي وهو يسير ببطء ناحية مواسير المويه المصطفه عند مدخل المقابر ، فهو الملك ونحن الرعيه .

حين وصول عم الصديق إلى المواسير ، نجلس قبالته صامتين وهو يبدأ في إنزال "تمن" اللبن الواحده تلو الأخرى من ظهر تمبشه والتي كانما سعدت بزول الثقل عنها تصدر صوت عال بين "نهيق" وصياح فيضع عم الصديق امامها حزمة من برسيم تبدا بمضغ بعض منها هاشة باشه ، يبدأ عم الصديق في غسل اواني اللبن في تجرد وانهماك واضحين وبحرص على دقه متناهيه في انجاز المهمه ، احيانا قد ينادي على احدنا فقط لعون محدود لا يتجاوز اجر المناوله

- يا محمد يا ولدي ناولني الليفه من هناك

- يا حسين عليك الله تعال امسك بي هنا !

ويتابع جميعنا التفاصيل خطوه بخطوه وكاننا في فصل دراسي ، ينتهي الغسيل ويبدأ عم الصديق في رص "تمن" اللبن على درجات المواسير الاسمنتيه حيث تقع عليها بعض خيوط الشمس التي بدأت لتوها في الشروق فتساعد في تجفيفها ، وخلال الانتظار يعود إلأينا ويجلس على حجره المميز "ككرسي" نعم يشبه الكرسي ومميز لان لا احد منا يجروء على الجلوس عليه ، لم نفكر ولم نفعلها من قبل ، ويمد عم الصديق يديه في جيوبه فيخرج ما قد يكون احيانا حلوى وأحيانا اخرى تمر وفي بعض الأحايين حلاوه " سمسميه" ويوزع علينا فنتناولها في فرح غامر ، وبهدوء يخرج سجارته ويشعلها في شرود وكانه يقلب دفتر راسه ، وينفث نفسا طويلا ويبدأ في الحكي :

- احكي ليكم الليله عن حبوبتكم الكبيره "مهيره بت عبود" تعرفوها ؟ كانت مره ضكرانه وشجاعه وما بتخاف من اي زول ...............و....

وفي بعض الاحيان كان عم الصديق يبدأ "بالدوبيت" او مقاطع من شعر البطانه ، وتتكرر الحكاوي والروايات في اوقات  متباعده الا اننا ما نزال نستمع اليها وكاننا نسمعها لاول مره ، وتختلف من حكايات الشاطر حسن ، للمك نمر والزبير باشا ، وحكايات النجاشي ملك الحبوش و .. و.. لا نهايه لحكايات عم الصديق ، بعضها اساطير وبعضها تاريخ قريب كنا ندرسه في المدارس ولكن ما نزال نفضل حكي عم الصديق !

وفجاه يقييف :
- يلا خلاص كفايه كده ، يلا على بيوتكم عشان تشربوا الشاي باللقيمات ، يلا اجروا بي سرعه ، اشوفكم باكر انشاء الله !

ودونما نقاش نركض ، وبسرعه فيومنا قد اخذ طعم البدايه المدهشه التي تعودنا عليها كل يوم ، فنترك عم الصديق مشدوها بجمع اغراضه وتجهيز "تمبشه" استعداداً لرحلة العوده إلى بيته .
نحن ننتظر الصباح .. نعم ننام كل ليله ونحن نحلم بالصباح ،كل صباح هو بدايه مختلفه وشيقه لنا في انتظار حضور عم الصديق وهكذا تمضي سنوات صغرنا في انتظار الصباح والحليب وعم الصديق دون كلل او ملل ، لم يتغير شيء ننتظر ويحضر عم الصديق ونشرب كل صباح لبنه ونستمع لحكيه وشعره الشيق لا شيء بدل في حياتنا وعادتنا وتفاصيلنا .. حتى ذلك الصباح ..

استيقظنا .. صلينا .. ولم يحضر عم الصديق ولا تمبشه فانتظرنا ، وانتظرنا حتى منتصف النهار ولم يحضر عم الصديق ، ونمنا ولم يحضر ..

- يارب سترك ، يا لطيف الالطاف الطف

- انشاء الله خير ..!؟

- يالطيف ..!!

وجاء صباح آخر ، واشرق صباح خلف صباح ولم يحضر عم الصديق ، كم مر من وقت ، يوم ، يومان ، ثلاثه ، ..........، ........ ،لم يحضر عم الصديق ولم نشرب اللبن ..
- ...........................................!!

- استغفر الله العظيم ..!!

                                                                                                                              القاهره في 27 يوليو 1996

هناك تعليق واحد:

  1. * نشرت بجريدة الإتحادي الدوليه العدد (600) بتاريخ 2 مايو 1998

    ردحذف